السبت، 20 أكتوبر 2007

أنس الذي لم يأتِ بعد ...


السادسة صباحا ً على الشاطئ ، وحيدة تنتظر الطير و من بين كفيها يتقاطر الخبز الجاف و فتات الأحلام ، الشال الأسود على كتفيها يتدلى في يأس تأخذه الريح و تعيده و الطير حتى الآن لم يأت .. في كل صباح تشتهي القرب من الساحل بينما (أنس) يزداد نأياً و اقتراباً ، هي على الشاطئ بينما بصرها يتجاوز بوح الشطآن و أنس الصغير لا يأتي ، تخشى أن تنسى في يوم ما أن تحضر للطير فتاتا ً فيأكل من رأسها و يتحقق الحلم الكابوسي الذي حدث نصفه بالفعل ، منذ حوالي خمسة عشر عاما ً غرق أنس في ليلة صيف و حتى الآن لم تطفُ أشلاؤه !! قالت بعض نساء المدينة الغارقة في الملح أن عروس البحر قد التهمته و تقول أخريات أن النورس حمله معه إلى الشاطئ الآخر ، و أُخر يحكين عن من شاهدوا جسد أنس يطفو على الشاطئ المقابل ، تقف أم أنس على الشاطئ تنتظر العائدين في كل مساء بينما يتدلى مصباح صدئ من يمناها و تشير بيسراها للسفن المارقة القادمة من الشاطئ المقابل و تنادي :
يا راجع من الشط التانى
هات لي خبر من الغالي
قله البحر غدار و عالي
يسرق من الأرض عيالي
يتكرر الحداء في كل ليلة و لا أحد يجيبها ، كل الأطفال قد عادوا إلا أنس ، طلبت من نجار الحي أن يصنع لها زورقا ً يحملها إلى الشاطئ المقابل إلا أنه رثى لحالها و تعلل بافتقاره للأخشاب اللازمة و خبرها أن تأتي في الصيف التالي ، و في كل صيف تكرر طلبها فيخبرها أن الأشجار ما زالت ضعيفة و أخشابها هشة لن تتحمل عصف الأمواج فلتأت ِ في الصيف التالي ، خمسة عشر صيفا ً انتحرت في عمرها و لم تنضج الأشجار بعد و لم يأت أنس اللاشقيق له ، أنس الذي كان يبيت في حضن الليل على الشاطئ ينتظر أبا ً لا يأتي أبدا ًمنذ غاب في متاهة البياض قبل قدوم أنس إلى الحياة بأيام ،و أنس في كل صباح يسابق إلى الشمس من أجل ما يجود به البحر من أصداف تصنعها أمه حلى و عقود و تبيعها ،أنس الذي كان يحلم بكل شيء يحلم بجناحي نورس يرفعه إلى السماء و بقلب سمكه يغوص به إلى الأعماق ، كان يحلم بكل شيء إلا أحلام الحلوى و زهو الطفولة ،هي الآن مرهقة تستند على حافة قارب قديم نصف نائمة ، يباغتها صوت أنس يجلجل في فضاء الليل :
يمه النهاردة البحر بخيل
بياخد بس و لا يديش !!
يقترب الصوت أكثر و ترتسم صورة أنس أكثر وضوحا ً على صفحة عينيها ، بينما تهم لتلقاه بروح ظمأى تشتاق احتضانه ، يرحل الليل سريعا و يزيح الفجر ستار النصف منامة التي أغرقتها ، يجيء الصيادون إلى الشاطئ ببقايا رائحة النوم و شغف الصباح لتبدأ يوما ً جديدا ً من الانتظار و الحداء :
يا رايح للشط التاني
خد مني سلام للغالي
قله البحر بياخد يمه
بس في يوم راح ترجع تاني.
في كل مساء يباغتها أنس بصوته و أغنيته التي تتكرر و يوقظها زحف الصيادين على الشاطئ من أجل صباح آخر من الانتظار و الحداء ...

ليست هناك تعليقات: